يتعرض العلمانيون السوريون، فضلاً عن مفهوم العلمانية، لهجوم على الإنترنت وعلى أرض الواقع. يقدم الكاتب والباحث، جوزيف ضاهر نظرة نقدية للجهود الرامية مؤخراً إلى التشكيك في إسهام العلمانيين السوريين في ثورة 2011، ويقدم منظوراً تاريخياً لمعنى العلمانية وكيف جرى استخدام وإساءة استخدام هذا المفهوم في معركة تشكيل مستقبل سوريا. يتناول الجزء الأول دور العلمانيين والعلمانية في الانتفاضة السورية، وكيف يمكن تعريف العلمانية، وهل قام نظام الأسد بتمكين أم إعاقة القوى العلمانية في سوريا؟

18 آب 2018

(يمكن قراءة الجزء الثاني على هذا الرابط)

في الموقع التابع للمعارضة السورية زمان الوصل، أطلق الكاتب، هلال عبد العزيز الفاعوري، هجوماً جديداً على العلمانيين في مقال بعنوان “ماذا يريدعلمانيو سوريا من المسلمين السوريين. يصف الفاعوري جميع العلمانيين بأنهم “ينتقدون كل شيء ينتمي للإسلام”، وبأنهم يضمرون “العداء للمسلمين” ولا سيما من خلال الرغبة في “حلق لحاهم وخلع جلابيبهم ورمي عمائمهم و… إغلاق مساجدهم وعدم الصلاة”. للفاعوري العديد من المقالات في موقع زمان الوصل المعارض

ليس من قبيل المصادفة أن يأتي هذا المقال بعد بضعة أسابيع فقط من نشر القيادي في جماعة الإخوان المسلمين السورية، ملهم الدروبي، التعليق التاليعلى صفحته على فيسبوك: “أحب أن تضعوا تعليقاتكم حول: ماذا قدم العلمانيون للثورة السورية”، في تحريض واضح ضد هذه الشرائح من المعارضة. وقد دفع تعليقه الكثير من النشطاء العلمانيين للإجابة إما بشكل مباشر أو غير مباشر على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد سبق لجماعات وشخصيات إسلامية وجهادية أخرى أن هاجمت العلمانيين على أنهم “أدوات أجنبية”، ورفضت دورهم في الانتفاضة واعتبرت مفهوم العلمانية برمته هرطقة أو ارتداداً عن الدين. تثير هذه الهجمات على العلمانيين والعلمانية العديد من الأسئلة والقضايا التي تحتاج إلى معالجة

(بوست نشره عضو تنظيم الإخوان المسلمين السوري، ملهم الدروبي، على صفحته على الفيسبوك بتاريخ 13 يونيو 2018)

ماذا قدم العلمانيون للثورة السورية

أولاً، لا ينبغي أن تكون مسألة مشاركة النشطاء العلمانيين في انتفاضة عام 2011 موضع نقاش. فقد شارك هؤلاء بنشاط في مختلف مراحل الكفاح ضد النظام الحاكم، قبل وبعد اضطرابات عام 2011. فقد لعب عدداً من النشطاء العلمانيين دوراً مهماً في لجان الحراك المحلية وفي تطوير أعمال سلمية مناهضة للنظام. وقد طورت هذه التجمعات ببطء هياكل داخلية خاصة بها، كما لعبت عدة تنسيقيات دوراً مهماً، خصوصاً في تعزيز روابط التضامن على المستوى الوطني، ولا سيما اتحاد تنسيقيات الثورة السورية، واتحاد طلبة سوريا الأحرار ولجان التنسيق المحلية، والعديد من التجمعات الشبابية الأخرى مثل الشباب الثوري الثائر. كانت المعارضة المدنية المحلية في سوريا هي المحرك الأساسي للانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد خلال العامين الأولين. إلا أن القمع والعسكرة وصعود القوى الأصولية والجهادية الإسلامية، جنباً إلى جنب مع التدخلات الأجنبية، غيّرت هذا الوضع. وكذا تحولت انتفاضة سوريا من ثورة شعبية إلى حرب دولية.

العلمانية ليست في الواقع نقيض الإيمان أو دعوى للقضاء على الأديان في المجتمع. فقد يكون المرء مؤمناً وفي نفس الوقت مؤيداً للعلمانية كمبدأ ناظم لشؤون الدولة والمجتمع

ثانياً، لعل السلبية الموجهة نحو العلمانيين مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي ومنافذ المعارضة السورية يتناسب مع أنماط إقليمية وتاريخية أوسع. فقد دأبت معظم القوى المحافظة والأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط منذ عقود على وصف العلمانية بشكل سلبي باعتبارها شكلاً من أشكال الهرطقة، والردة، والإلحاد، والهجوم على الإسلام، وكأحد المنتجات الغربية التي لذلك لا بد من مكافحتها. ففي أحد كتبه العديدة التى تهاجم مفهوم العلمانية، يقول المرجع السلفي المصري ورجل الدين النافذ المقيم فى قطر و ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين يوسف القرضاوي:

“يمكن قبول العلمانية في مجتمع مسيحي، لكن لا يمكن أن تتمتع قط بقبول عام في مجتمع إسلامي… أما بالنسبة للمجتمعات المسلمة، فإن قبول العلمانية يعني شيئاً مختلفاً تماماً. فبما أن الإسلام نظام شامل للعبادة والشريعة، فإن قبول العلمانية يعني التخلي عن الشريعة، وإنكار الهداية الربانية ورفض النواهي الإلهية. من التزييف الكامل الادعاء أن الشريعة غير ملائمة لمتطلبات العصر الحالي… وعليه فإن الدعوة إلى العلمانية بين المسلمين هي إلحاد ورفض للإسلام. وقبولها كأساس للحكم بدلاً من الشريعة هو ردّة تامة”.[1]

جاءت هذه التصريحات في كتابه “الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا”. ويبثّ رجل الدين وجهات نظر مماثلة كضيف على قناة الجزيرة حيث يحظى بإطلالة أسبوعية خاصة

(لوحة تمثل الصراع بين الإسلام السياسي والاستبداد/ خاص حكاية ما انحكت)

في سوريا، تعرّض مفكرون وجماعات ديمقراطية وعلمانية وليبرالية لهجمات لفظية وجسدية من جانب حركات ذات ميول إسلامية منذ بداية الانتفاضة في عام 2011 فقط بسبب أيديولوجيتهم. كان آخر استعراض للمشاعر المناهضة للعلمانية قد حدث مع الاجتياح العسكري لعفرين وما تلاه من احتلال من قبل الجيش التركي والجماعات المسلحة السورية المحسوبة على أنقرة، ومعظمهم من المحافظين والأصوليين الإسلاميين المتحالفين مع أنقرة. وقد هاجم بعض المقاتلين السوريين المشاركين في الهجوم وما تلاه من احتلال وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) ليس فقط بسبب أصولهم الإثنية أو “اتهامات التحيّز للنظام” بل أيضاً لأن حزبهم السياسي يروج لنسخة محددة للغاية من العلمانية. تعود جذور الحزب التاريخية إلى الماركسية والعالم الثالثية،[2] إلا أن أيديولوجيا الجماعة تأثرت أيضاً بالمنظر الاجتماعي الأمريكي، موراي بوكتشين، المفكر الذي يدافع عن “البلديات التحررية”. كان الحافز الرئيسي للعملية العسكرية على عفرين بقيادة تركيا هو منع وحدات حماية الشعب من السيطرة على الأراضي المجاورة على طول الحدود السورية التركية، حيث تعتبر أنقرة فرعها السياسي، حزب الاتحاد الديمقراطي، جماعة إرهابية مرتبطة بالتمرد الكردي الحاصل في تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني. مثّل الاجتياح جزءاً من حرب أوسع بكثير تشنها أنقرة ضد حزب العمال الكردستاني، حيث أكد الرئيس التركي أردوغان في مناسبات عديدة أن قواته المسلحة ستكثف هجومها ضد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية على طول الحدود السورية-التركية، وصولاً (إذا لزم الأمر) حتى شمال العراق

تعريف العلمانية

من الضروري تحديد ما نفهمه بالعلمانية والدولة العلمانية: على الأقل، يشمل المفهوم الفصل بين الدولة والدين، وحياد الدولة تجاه المؤمنين وغير المؤمنين، بما في ذلك على مستوى توزيع الموارد أو إتاحة الفرص. الدين والمؤسسات الدينية لا يحكمان أو يفرضان قوانينهما على المجتمع، في حين لا تتمتع أية عقيدة دينية بأي امتياز على غيرها. في نفس الوقت، تضمن حرية الضمير حق المؤمنين في ممارسة دياناتهم، وحق غير المؤمنين بعدم الاعتقاد أو عدم ممارسة أي عقيدة دينية سائدة

في سوريا، تعرّض مفكرون وجماعات ديمقراطية وعلمانية وليبرالية لهجمات لفظية وجسدية من جانب حركات ذات ميول إسلامية منذ بداية الانتفاضة في عام 2011 فقط بسبب أيديولوجيتهم

اتخذ مفهوم العلمانية مسارات مختلفة وفقاً لتاريخ كل مجتمع.[3] في الشرق الأوسط، بدأت النقاشات الحديثة والمعاصرة حول مفهوم العلمانية في منتصف القرن التاسع عشر بقيادة مفكرين من المنطقة خلال الفترة المسماة “النهضة”، وقد صاحب ذلك مناقشات أخرى ذات صلة تتعلق بتحديات المنطقة في ذلك الوقت، وعلى الأخص كيفية مواجهة الهيمنة الغربية والاستعمار. في القرن العشرين، ومع صعود الحركات القومية والشيوعية العربية في المنطقة، أخذت الفكرة في الانتشار أكثر. وقد راحت القوى الدينية المحافظة والإسلامية، بمساعدة سعودية وغربية وقتذاك، تستجيب أكثر فأكثر لهذه القوى الصاعدة بتشويهها على أنها أيديولوجيات أجنبية تهاجم الإسلام وتكافئ للإلحاد الرامي إلى القضاء على دين المجتمع. ولا يزال تعريف العلمانية اليوم لدى العديد من الحركات الأصولية الإسلامية امتداداً لتلك النظرة. هذا بالطبع لا يقتصر على الشرق الأوسط.[4] فصعود الأصولية الدينية هو في واقع الحال ظاهرة دولية، لا مسألة فريدة في الشرق الأوسط أو غيره من المجتمعات ذات الغالبية المسلمة. وقد رأينا تطور تيارات سياسية مماثلة مثل الأصولية المسيحية، والأصولية الهندوسية، والأصولية اليهودية في إسرائيل، وكلها تملك السمة الخاصة بالسياسات اليمينية. لكن على الرغم من دعوة كل منها للعودة إلى عصر ذهبي سابق، لا ينبغي النظر إليها كعناصر متحجرة من الماضي، فهي رغم استخدامها لرموز وسرديات من فترات سابقة، إلا أن جميع هذه الأصوليات نتاج المجتمعات الحديثة. [5]

سوريا تحت حكم الأسد، علمانية؟

قد تكون سوريا متنوعة دينياً وإثنياً، لكن الدولة ليست علمانية بطبيعتها. ولم يكن نظام الرئيس بشار الأسد استثناءً، فدستور عام 2012 ينص على أن على رئيس الجمهورية أن يكون مسلماً، وأن “المصدر الرئيسي للتشريع هو الشريعة الإسلامية”. كما أن لسوريا ثمانية قوانين مختلفة للأحوال الشخصية، كل منها بحسب الطائفة الدينية التي يتبع لها الفرد[6]. تشمل هذه القوانين أيضاً التمييز الرئيسي ضد النساء. ففي عام 2010، قام العديد من رجال الدين الإسلامي، مثل الشيخ أسامة الرفاعي الذي يقيم حالياً في المنفى بسبب معارضته للنظام ويرأس المجلس الإسلامي السوري، والشيخ راتب النابلسي، الذي لم يعبّر عن معارضته للنظام، بتصوير ” اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة” (لجنة سيداو) على أنها “تهديد خطير لحياة السوريين وأخلاقهم وقيمهم الدينية”، في حين أعربوا عن دعمهم للتحفظات العديدة التي قدمها النظام وطالت أحكاماً أساسية في العهد الدولي رغم معارضة الحركات النسائية السورية. على سبيل المثال، تم استبقاء التحفظات على المادة 2 من اتفاقية سيداو، والتي تطالب الدول الأطراف المصادقة على الاتفاقية بتجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية والتشريعات الأخرى المناسبة، وكفالة حظر جميع أشكال التمييز ضد المرأة بالقانون وغيره من الأدوات المناسبة، بما في ذلك العقوبات عند الاقتضاء.[7]

(لافتة مرفوعة في أحد المظاهرات في مدينة حلب، والصورة مأخوذة من وسائل التواصل وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

تاريخياً، قام نظام الأسد منذ عهد حافظ الأسد بتطوير خطاب ديني شديد المحافظة، مشجعاً المؤسسة الإسلامية المحافظة على ضم التيارات الإسلامية وإضفاء الشرعية عليه. كما قام النظام برعاية ومأسسة جماعات إسلامية بديلة كانت على استعداد لمجاراته في لعبته السياسية، مثل الطريقة النقشبندية بزعامة الشيخ أحمد كفتارو، والجماعات المرتبطة بالشيخ محمد سعيد رضمان البوطي، أو حركة القبيسيات النسائية الإسلامية.[8] تزامنت سياسات التقرب من الشرائح الدينية المحافظة في المجتمع مع فرض رقابة على الأعمال الأدبية والفنية، ومع الترويج للأدب الديني الذي أخذ يملأ رفوف المكتبات، ومع أسلمة مجال التعليم العالي.[9] كما قامت الجماعات الدينية المتشددة المقربة من النظام بتوجيه اتهامات علنية للنشطاء والجماعات النسوية بأنهم زنادقة ويسعون لتدمير أخلاق المجتمع ونشر القيم الغربية، مثل مفهوم الزواج المدني وحقوق المثليين والمثليات والحرية الجنسية المطلقة.[10] هذا دون أن ننسى التاريخ الطويل لعلاقات نظام الأسد مع الجماعات الأصولية الإسلامية في سوريا وخارجها، فضلاً عن استخدامه لجماعات الجهاديين في أوقات مختلفة، بما في ذلك أثناء الاحتلال الأميركي للعراق

العلمانية والتطرف وبقاء نظام الأسد

وبالمثل، كانت هناك استراتيجية واضحة من قبل نظام الأسد منذ بداية الانتفاضة لتقوية وإفساح المجال أمام إنشاء منظمات سلفية جهادية وأصولية إسلامية لضرب مصداقية الحراك الشعبي ورسالتها المنفتحة الأولى، بما في ذلك عبر تحرير العديد من الجهاديين والسلفيين القابعين في سجونه في الأسابيع التالية لبدء الحراك الاحتجاجي، في حين جرى قمع المكونات الديمقراطية والتقدمية في الحراك وفي قوات الجيش السوري الحر. إلى جانب هذا العنصر، جاءت المؤسسات البديلة التي أنشأها المحتجون، مثل التنسيقيات والمجالس المحلية، بتوفيرها الخدمات للسكان المحليين، كمحاولات لتأسيس وضع يتحدى سلطة الدولة حيثما تتراجع سيطرة الأخيرة. وقد قدم الحراك الاحتجاجي من خلال هذين العنصرين، ولا سيما في الأشهر الستة الأولى التي سبقت عسكرة الانتفاضة الجماهيرية، بديلاً سياسياً كان من شأنه أن يستهوي قطاعات كبيرة من السكان. إلا أن هذا الوضع تعرض لضربات متتالية نتيجة تطور الانتفاضة وتعقد دينامياتها. فقد أخذت الرسالة المنفتحة والديمقراطية لحركة الاحتجاج المبدئية، فضلاً عن حيويتها الأولى، تتضاءل بشكل كبير، أولاً بسبب قمع النظام وحربه ضد المكونات الديمقراطية للحراك الاحتجاجي، وثانياً بسبب صعود الحركات الأصولية الإسلامية والجهادية الذي أدى لإضعاف هذه القطاعات أكثر فأكثر

قام نظام الأسد منذ عهد حافظ الأسد بتطوير خطاب ديني شديد المحافظة، مشجعاً المؤسسة الإسلامية المحافظة على ضم التيارات الإسلامية وإضفاء الشرعية عليه

أنشأ ذلك ميزة مزدوجة للنظام. أولاً، أخذ يقدم نفسه دولياً على أنه قلعة ضد “التطرف”، وبالتالي حاول أن يدرج حربه القاتلة على الشعب السوري ضمن ما يسمى “الحرب على الإرهاب” التي تقودها الدول الغربية والأنظمة الاستبدادية في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم. ثانياً، أمكن للنظام اللعب على المخاوف التي تعتري قطاعات من السكان ترى بحق في تلك القوى تهديداً وجودياً. فالفاعلون الجهاديون والسلفيون الذين دعمتهم السعودية وقطر وتركيا في وقت لاحق روّجوا لرؤية اجتماعية كانت بالطبع مشروعاً إقصائياً وعديم الجاذبية بالنسبة لمجموعات مختلفة داخل المجتمع السوري، مثل الأقليات الدينية أو النساء أو كل من يملك فهماً مختلفاً للدين الاسلامي. وقد روج النظام لنفسه على أنه “حامي الأقليات” و”الحداثة”، رغم أن ذلك (كما ذكر آنفاً) كان أبعد ما يكون عن الحقيقة. في هذا السياق، أصبحت كل هزيمة تتلقاها الشرائح الديمقراطية داخل الحراك الاحتجاجي، المدني منه والمسلح، تعزّز القوى الأصولية الإسلامية. وتدريجياً، هيمنت هذه العناصر على المشهد العسكري

العلمانية والعلمانية المناهضة للديمقراطية

هل يعني هذا أن الأنظمة السياسية العلمانية جيدة بالضرورة؟ على الإطلاق. مثلاً على المستوى الدولي، الدولة الفرنسية أبعد ما تكون عن النموذج الذي يجب اتباعه، بل هي نموذج يجب إدانته لاستخدامها العلمانية في تطبيق قوانين تمييزية وعنصرية ضد المسلمين والمسلمات بخاصة، حيث تحظر القوانين الفرنسية مثلاً ارتداء الحجاب في المدارس العامة. إن مسألة ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب مسألة تخص النساء فقط، وهنّ من يملك اتخاذ هذا القرار بشكل مستقل وذاتي. أما فرض ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب بالقوة فعمل رجعي ومُعادٍ للديمقراطية، وهو يتعارض مع أي دعم لحق النساء في تقرير مصائرهن

وبشكل عام، لا بد من التعامل مع صعود رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)،[11] ولا سيما في الدول الغربية، باعتباره شكلاً من أشكال العنصرية المدانة

(خاص حكاية ما انحكت)

إن العلمانية ليست في الواقع نقيض الإيمان أو دعوى للقضاء على الأديان في المجتمع. فقد يكون المرء مؤمناً وفي نفس الوقت مؤيداً للعلمانية كمبدأ ناظم لشؤون الدولة والمجتمع. وقد سبق لعبد الرحمن الكواكبي، المفكر الإسلامي الإصلاحي السوري وأحد أبرز شخصيات عصر النهضة، أن قال ضمن فصل “الاستبداد والدين” في كتابه “طبائع الاستبدا”د المنشور نهاية القرن التاسع عشر:

“يجب التمييز بين الدين والدولة، فهذا التمييز مطلب رئيسي للزمان والمكان الذي نعيش فيه”.[12]

وبالمثل، جادل علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” المنشور عام 1925 أن الإسلام لم يدفع باتجاه شكل معين من أشكال الحكم، واقفاً ضد لعب الدين دوراً في السياسة وضد الإلزامات السياسية الوصفية للنصوص الدينية

أكثر من ذلك، تعطي العلمانية المؤمنين مجالاً لتحرير أنفسهم من استخدام الدين من قبل الدولة الأحزاب السياسية، فتمكنهم من ممارسة دينهم بحرية ودون اضطهاد الدولة

لكن ماذا عن العلمانيين، هل يشكلون مجموعة واحدة؟ كلا، بل العكس من ذلك تماماً. في سوريا نجد علمانيين بين مؤيدي النظام ومؤيدي المعارضة. الاختلافات موجودة أيضاً داخل هذه المجموعات. في المعارضة على سبيل المثال، لم يشكل العلمانيون قطباً واحداً، وهو أمر طبيعي تماماً حيث توجد أطياف سياسية مختلفة من يساريين ونسويين إلى ليبراليين وقوميين وجماعات محافظة. وفي حين قد يكون لديهم بعض النقاط المشتركة حول مفهوم العلمانية، رغم عمق الاختلافات فيما بينهم، إلا أنهم لا يشاركون نفس البرنامج السياسي بالنسبة للعديد من القضايا المختلفة مثل شكل الاقتصاد وحقوق النساء والقضية الكردية والإمبريالية وغيرها. هذا الميل إلى اعتبار العلمانيين كتلة سياسية متجانسة يقوض مفهوم العلمانية بشكل عام.[13]

:مقال منشورة على الموقع

http://syriauntold.com/2018/08/العلمانيون-والعلمانية-والانتفاضة-ال/

المراجع

[1] https://ia802305.us.archive.org/2/items/FP0203/0203.pdf، ص67.

[2] انظر الفيديو https://wordpress.com/posts/syriafreedomforever.wordpress.com

[3] على سبيل المثال، رفض كارل ماركس كمفهوم فكرة أن المهمة الرئيسية للثوار مهاجمة الدين، كما كان يروج العديد من مفكري عصر التنوير في أوروبا. وقد جادل ماركس أن هناك أساساً مادياً حقيقياً للمعتقد الديني – الظروف الرهيبة التي تضطر لعيشها الجماهير البشرية المضطهدة. فقط عبر القضاء على تلك الظروف المادية الظالمة يمكن للدين أن يتلاشى. وقد عارض كارل ماركس أيضاً إدراج الإلحاد في البرنامج السياسي للحركة الثورية.

[4] انظر https://www.opendemocracy.net/rajeev-bhargava/states-religious-diversity-and-crisis-of-secularism-0#_edn1

[5] انظر Martin E. Marty, “Fundamentalism as a Social Phenomenon,” Bulletin of the American Academy of Arts and Sciences 42, no. 2 (1988)

[6] تتبع الطوائف المسيحية قوانينها الخاصة، في حين يقوم قانون الأحوال الشخصية لجميع المسلمين على تفسير سنّي معيّن للشريعة الإسلامية والفقه الحنفي وغيره من المصادر الإسلامية.

[7] انظر:

See Kannout, Lama (2016), In the Core or on the Margin: Syrian Women’s Political Participation, UK and Sweeden, Syrian Feminist Lobby and Euromed Feminist Initiative EFI-IFE http://www.efi-ife.org/sites/default/files/In%20the%20Core%20or%20on%20the%20Margin%20Syrian%20Women’s%20Political%20Participation.pdf and Aous (al-), Yahya (2013), “Chapter 3: Feminist Websites and Civil Society Experience”,in Kawakibi S. (ed.) Syrian Voices From Pre-Revolution Syria : Civil Society Against all Odds, HIVOS and Knowledge Programme Civil Society in West Asia. (pdf.). Available at: <https://hivos.org/sites/default/files/publications/special20bulletin202-salam20kawakibi20_6-5-13_1.pdf>, (accessed 3 March 2014), p. 27

[8] انظر:

Khatib Line (2011), Islamic Revivalism in Syria, The rise and fall of Ba’thist secularism, London and New York, Routledge Studies in Political Islam;

Pierret, Thomas (2011), Baas et Islam en Syrie, Paris, PUF; Imady, Omar, (2016) “Organisationally Secular: Damascene Islamist Movements and the Syrian Uprising” Syria Studies, Vol. 8, No. 1, pdf. Pp.66-91; Lefèvre, Raphael (2013a), The Ashes of Hama, the Muslim Brotherhoods in Syria, London: Hurst

[9] Pierret, Thomas (2011), Baas et Islam en Syrie, Paris, PUF, p. 115

[10] Aous (al-), Yahya (2013), “Chapter 3: Feminist Websites and Civil Society Experience”,in Kawakibi S. (ed.) Syrian Voices From Pre-Revolution Syria : Civil Society Against all Odds, HIVOS and Knowledge Programme Civil Society in West Asia. (pdf.). Available at: <https://hivos.org/sites/default/files/publications/special20bulletin202-salam20kawakibi20_6-5-13_1.pdf>, (accessed 3 March 2014), p. 25

[11] يعني رُهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا من وجهة نظر الكاتب مزيج التعصب الديني والعنصرية الموجهَين ضد السكان المسلمين.

[12] بحسب أمين المكتبة (الكتبي) والباحث جورج عطية، “سواء كانت علمانية الكواكبي كاملة أم لا، هذه مسألة قابلة للنقاش في أكثر من وجه. فتقديمه لفكرة الخلافة الروحية قادته بالضرورة لاعتبار السياسة منظومة مستقلة، وهو موقف شبه وحيد بين الإصلاحيين المعاصرين للإسلام”. رشيد رضا مثلاً، الإصلاحي المضاد بامتياز، أشار إلى عدم موافقته على مفهوم الكواكبي لفصل الدولة والدين. http://www.syriawide.com/atiyeh.html

تحول رضا من التوجه الإصلاحي لإسلاميين سابقين، خاصة الإصلاحيين المشهورين محمد عبده وجمال الدين أفغاني، نحو توجه أكثر أصولية. وقد أدى تطور فكر رضا لتقريبه من المذهب الحنبلي الطهراني، ولا سيما معاصريه الوهابيين. فقد أصبح مدافعاً صميماً للنظام السعودي والوهابية أثناء تعاونه مع الملك السعودي عبد العزيز، وبدأ بمعارضة ومحاربة الطرق الصوفية وممارسات أتباعها، مجادلاً بضرورة إعادة ترميم الخلافة بعد إلغائها عام 1924. كما قام رضا بتطوير إدانة قوية ضد الشيعة، متهماً الشيعة العرب بأنهم عملاء لإيران (وهي السمة التي غالباً ما نراها اليوم بين السلفيين والحركات الأصولية الإسلامية الأخرى). كان لرشيد رضا شخصياً تأثير بارز على الإطار الفكري والسياسي لجماعة الإخوان المسلمين، فقد سعى لإحياء القراءة المتشددة الحرفية لابن تيمية ودعوته للجهاد. وقد انتشر هذا التقليد السلفي الجديد بشكل فردي عبر مثقفين مثل رشيد رضا في العشرينات والثلاثينات، وبشكل اجتماعي عبر مجموعات مثل جماعة الإخوان في وقت لاحق في مصر وأماكن أخرى.

[13] من المهم أيضاً، أنه بالمقابل لا يجب معاملة جميع الحركات السياسية ذات الجذور الدينية بشكل متجانس. كما قال الكاتب السوري عزيز العظمة، ” فهم الظواهر السياسية الإسلامية يتطلب الأدوات العادية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وليس إنكارها”. إن عدم التصرف بهذه الطريقة يقودنا لاعتبار “الآخر” جوهراً واحداً، هو في كثير من الحالات الحالية الآخر “المسلم”. لا دين يوجد في الواقع بشكل مستقل عن الناس، تماماً كما لا يوجد الله خارج مجال العمل الفكري للإنسان. لهذا لا بد من رفض دعاوى كراهية الإسلام بحجة أن لداعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها من الحركات الأصولية سنداً دينياً في القرآن. ينبغي تحليل مثل هذه المجموعات وأفعالها باعتبارها نتاجاً لأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية دولية ومحلية في الوقت الحالي، وليس نتيجة لنص مكتوب منذ 1400 عام. هل نفسر الغزو الأمريكي للعراق بالمعتقدات الدينية لجورج بوش (الذي ذكر أن الله أخبره في منامه بضرورة غزو العراق)؟ بالتأكيد لا. بل نشرح حرب بوش ودوافعه وتبريره الأيديولوجي كنتاجات للإمبريالية الأمريكية.

في الوقت نفسه، رأينا في الماضي حركات أو أفراداً متجذرين في هوياتهم الدينية ويطورون سياسات تقدمية. فقد طور لاهوت التحرير المسيحي نقداً راديكالياً للرأسمالية ضد دكتاتوريات أميركا الجنوبية، في حين كان المثقف والناشط المسلم الأسود مالكولم إكس أميل إلى اليسار، مع إخلاصه لمعتقداته الدينية ولا سيما في نهاية حياته. ولم يتردد إكس في انتقاد الزعماء المسلمين في مقابلة له عام 1965، حيث اتهمهم بإبقاء شعوبهم، والنساء منهم على وجه الخصوص، في الظلام عمداً، مضيفاً أن تقدم المجتمع يقاس بوضع نسائه، ومشيراً إلى أن “المزيد من النساء المتعلمات والمشاركات يعني المزيد من النشاط والإشراق والتقدم لجميع الناس”. Azmeh (Al-), A. (2003), “Postmodern Obscurantism and the Muslim Question”, Socialist Register, Vol. 39, pp. 28-50.