فی العام 2011، اكتسحت موجةٌ من النضال الثوري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد أسقطت عددًا من الديكتاتوريات ظلَّت في السلطة لعقودٍ من الزمن. اجتاح الملايين من الناس الشوارع، واحتلوا الميادين العامة، وطالبوا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. وبعدما اجتاز حواجز الخوف المتراكمة عبر سنواتٍ من القمع، صار الربيع العربي إلهامًا لكافة النشطاء عبر العالم.

وكما هو مُتوقَّع، رفضت النخب القائمة التطلُّعات الديمقراطية لدى الشعوب. وبدلًا من أن تُدخِل إصلاحاتٍ على أجهزة الدولة، عمدت تلك النخب إلى استخدام كافة الألاعيب المُتاحة، بما في ذلك الاستقطابات والقمع الوحشي، من أجل إلحاق الهزيمة بالحركات الثورية.

إلا أن الظروف التي أشعلت الربيع العربي، والتي من أبرزها اللامساواة الاقتصادية العميقة والاستبداد السياسي، ظلَّت كما هي دون تغيير. وبينما آلت الموجة الأولى من الثورات إلى الهزيمة، كان من المؤكَّد أنها ستعود مجدَّدًا. في السودان والجزائر الآن، عاوَدَت الحركات الاحتجاجية الظهور منذ أواخر العام الماضي بنفس الشجاعة والحيوية. أسقطوا الحُكَّام الديكتاتوريين، لكن في كلتا الحالتين يظلُّ الجيش في السلطة رغم إطاحة الرئيسين المكروهَين شعبيًا.

تحدَّث عمر حسن، من منظمة البديل الاشتراكي الأسترالية، مع الباحث والناشط الجزائري حمزة حموشان، مُنسِّق منظمة العدالة البيئية بشمال إفريقيا والمؤسِّس المشارك لحملة التضامن مع الجزائر، عن الحركة الجماهيرية التي تجتاح البلاد.
**********

ما الذي قامت عليه الاحتجاجات في الجزائر؟

انطلقت الحركة الاحتجاجية الجماهيرية بعد أيامٍ فقط من إعلان بوتفليقة نيته الترشُّح للرئاسة لعهدةٍ خامسة. في البداية، كانت الاحتجاجات صغيرة ومحدودة، لكنها صارت بعد ذلك جماهيرية. كلُّ يوم جمعة، منذ 22 فبراير، كان الجزائريون، شبابًا وعجائز ورجال ونساء من مُختَلَف الطبقات الاجتماعية (تشير بعض التقديرات إلى أنهم بين 17 و22 مليون متظاهر في بلدٍ يبلغ تعداده 42 مليونًا)، يجتاحون الشوارع في انتفاضةٍ هائلة استعادت المجال العام الذي لطالما كان مُصادَرًا. أيام الجمعة التاريخية هذه تبعتها احتجاجاتٍ واسعة للعاملين في قطاعات الصحة، والتعليم، والنظام القضائي، وصناعات البتروكيماويات، علاوة على التحرُّكات الطلابية والنقابية، التي جعلت الاحتجاجات حدثًا يوميًا.

وما بدأ رفضًا لترشُّح رئيس ثمانيني غير صالح صحيًا لهذا المنصب، تحوُّل إلى رفضٍ مُوحَّد للنظام الحاكم في مواجهة عناد وخداع النخب الحاكمة، بمطالباتٍ بالحرية والعدالة وبتغييرٍ ديمقراطي جذري. عبَّرَت هذه الانتفاضة عن التقاء السخط الشعبي من أسفل مع أزمةٍ داخليةٍ عميقة داخل الطبقات الحاكمة. بالأساس، لم يعد بوسع أولئك القابعين على قمة المجتمع ممارسة الحكم بالطرق القديمة، وأولئك في الأسفل أيضًا لم يقبلوا هذه الطرق أيضًا.

عبَّرَت الانتفاضة أيضًا عن عقودٍ من ألمٍ وغضبٍ ورفضٍ عميق للحكم الاستبدادي، وقمع الحريات، والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي، والفساد والمحسوبية المستفحلَين، والإفقار والتراكم الطفيلي للثروات، واللامساواة المتنامية، والتنمية غير المتكافئة للبلاد. كان هناك انسدادٌ للأفق، بالأخص أمام العاطلين الشباب الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الوصول إلى السواحل الشمالية للبحر المتوسط هربًا من اليأس والإذلال بالتهميش والانزلاق إلى مرتبة الـ”هيتيست” (معناها المباشر “المستندون إلى الحوائط”، ويُشار بها إلى الشباب العاطلين الذين لم يكن لهم أيُّ دورٍ في الجزائر ما بعد الاستعمار). وكلُّ ذلك واقعٌ في بلدٍ غنيٍّ كبلدنا.

الانتفاضة الجزائرية هي تمرُّدٌ جماهيري ضد السلب والنهب. والشعار الجزائري “يتنحاو ڤاع” (ارحلوا كلكم) هو نسخةٌ أخرى من “الشعب يريد إسقاط النظام”، ذلك الشعار الذي رفعته ثورات المنطقة العربية في 2010-2011. ومن هذه الزاوية، فإن ما يجري في السودان والجزائر هو استكمالٌ لعمليةٍ ثورية في شمال إفريقيا وغرب آسيا؛ عملية تشهد صعود وهبوط، ومكاسب وتراجعات، تتبلور في الانتقال الديمقراطي النيوليبرالي في تونس، والثورات المضادة الدموية والتدخُّلات الإمبريالية في بقية الدول.

يتعلَّق الأمل بأن يتعلَّم الشعبان الجزائري والسوداني من خبرات إخوانهم وأخواتهم في البلدان الأخرى، وأن يدفعا ثورتيهما حتى إلى ما هو أبعد من ذلك لانتزاع مطالبهم الأساسية بالكرامة والعدالة والسيادة الشعبية والحرية، وبإنهاء عقودٍ من الاضطهاد السياسي والاقتصادي.
**********

نُشِرَت الكثير من مقاطع الفيديو على الإنترنت يبرز فيها إبداع وتضامن الحركة الثورية في الجزائر وغيرها من البلدان. هل هناك أيُّ قصصٍ تُسلِّط الضوء على ذلك بالنسبة لك؟

أطلقت الحركة الثورية في الجزائر العنان لإبداعٍ لا حدود له لـ”العبقرية الشعبية”. حين كانوا يهتفون “استفقنا وستدفعون الثمن”، كان الناس يُعبِّرون عن إرادتهم السياسية التي أعادوا اكتشافها لتوِّهم. العملية التحرُّرية هي في الوقت نفسه عمليةً يجري فيها تحوُّلاتٍ كبرى. يمكننا أن نشهد ذلك في النشوة الجماهيرية، والطاقة، والثقة، والفطنة، والفكاهة، والمرح، كل تلك الأمور التي ألهمتها الحركة بعد عقودٍ من الركود الاجتماعي والسياسي. كل ذلك انعكس في شعاراتهم ولافتاتهم وهتافاتهم، تلك التي أحيت وأبرزت ثقافتهم الشعبية. لقد رأيت وسمعت الكثير من ذلك على الإنترنت وفي الشوارع في الكثير من المدن الجزائرية. هذه بعضٌ من تلك الهتافات التي التقطتها بكاميرا هاتفي المحمول، مثل: “تغيير النظام.. تحميل: 99%”، و”نحتاج مُنظِّف ديتول للقضاء على 99.99% من العصابة”، و”المشكلة ليست في الصنم، بل في استمرار عبادة الأصنام”.

بعض الشعارات الأخرى كانت مُوجَّهةً إلى التدخُّل والتواطؤ الفرنسي، مثل: “فرنسا خائفة من الجزائر، إذا حصلت على استقلالها ستطالبها بتعويضٍ عن المعادن التي استخدمتها لبناء برج إيفل”، و”ألو، ألو، ماكرون. أحفاد نوفمبر 1954 قادمون”.

وردًّا على دعوات قائد الجيش، قايد صالح، لتطبيق المادة 102 من الدستور، التي تسمح برئيس البرلمان الجزائري بتولِّي السلطة وعقد الانتخابات في غضون 90 يومًا من إعلان المجلس الدستوري شغور كرسي الرئاسة، هتف المتظاهرون: “نريد تطبيق المادة 2019.. ترحلوا كلكم”، و”طالبنا برحيل العصابة، وليس ترقية بعضٍ من أعضائها”، و”هنا الجزائر، صوت الشعب. الرقم 102 الذي تطلبه ليس موجودًا بالخدمة. رجاء الاتصال بخدمة الشعب 07” (في إشارةٍ إلى المادة 07 التي تنص على أن الشعب هو مصدر كل السلطات).

أما حين نتحدَّث عن التضامن الدولي، نجد أن ثمة حوارًا جاريًا بين الشعوب المقموعة والمُضطَهَدة في المنطقة وخارجها. السودانيون والجزائريون يتتبَّعون نضالات بعضهم ويتبادَلون الإلهام والإصرار على اتباع خطى ثورتيهم وإسقاط النظامين اللذين كانا يسحقانهم لعقودٍ من الزمن. نَشَرَ رسام الكاريكاتير الجزائري علي ديلم رسمًا كاريكاتيرًا مضحكًا يُظهر سودانيون يفوزون بهدفين مقابل هدف على الجزائريين، لأنهم أسقطوا رئيسين للدولة، بينما سقط واحدٌ فقط في الجزائر. المغربيون أيضًا يتلقون إلهامًا كبيرًا بما يحدث.
**********

بينما اجتاحت الثورات في العام 2011 الكثير من بلدان المنطقة، أدَّت الاختلافات المحلية إلى نتائج مُتشعِّبة ومتمايزة عن بعضها. في مصر، على سبيل المثال، كانت الثورة فضفاضةً نسبيًا بقيادة الشباب، ما يعني أنها افتقرت إلى ثقلٍ اجتماعي ومؤسَّسي في لحظاتٍ حاسمة. في تونس، اضطلع اتحاد الشغل -وبخاصة قواعده الدنيا- بدورٍ مهمٍ للغاية. أيُّ نوعٍ من القوى الاجتماعية تلك التي كانت تقود الحركة في الجزائر؟ هل ثمة منظمات أو أفكار بارزة بصورةٍ خاصة؟

الانتفاضة الجزائرية لها خصائصها المُميِّزة، ومواطن قوتها، ونقاط ضعفها.

أولًا، ما يجعل هذه الحركة الجماهيرية فريدة هو نطاقها الواسع، وطابعها السلمي، وانتشارها على الصعيد الوطني، بما في ذلك الجنوب المُهمَّش. تتميَّز الحركة أيضًا بالمشاركة البارزة للنساء والشباب بصورةٍ خاصة، وهم يُشكِّلون أغلبية السُكَّان. لم تشهد الجزائر مثل هذه الحركة الواسعة مترامية الأركان، والمُتنوِّعة، منذ العام 1962، حين احتفل الجزائريون باستقلالهم عن الحكم الاستعماري الفرنسي.

ثانيًا، يمكننا النظر إلى هذه الانتفاضة كاستمرارٍ للنضال المناهض للاستعمار في الخمسينيات والستينيات لاستعادة السيادة الشعبية والاقتصادية. كثيرًا ما كان يُشار في المظاهرات والمسيرات إلى الثورة ضد الاستعمار وشهدائها الأمجاد الذين ضحوا بحياتهم من أجل استقلال الجزائر، في تأكيدٍ على أن الاستقلال الشكلي لا معنى له دون سيادةٍ شعبية ووطنية -كانت النخب الحاكمة تبيع البلاد ومواردها طيلة ثلاثين عامًا. تعزَّزَ الوجدان المناهض للاستعمار بعداءٍ صارم لأيِّ تدخُّلٍ أجنبي أو إمبريالي.

ثالثًا، هناك التضامن الراسخ والأبدي مع الفلسطينيين. الجزائريون يدركون أن تحرُّرهم لن يكتمل بدون تحرير فلسطين. ويمكن اعتبار هذا فريدًا في المنطقة العربية؛ فإلى جانب أعلام الجزائر، كانت أعلام فلسطين حاضرةً دائمًا. ويحيى الناس ذكرى الشهداء الجزائريين والفلسطينيين دون تمييزهم عن بعضهم. يمكن استيضاح ذلك بأن الجزائر وفلسطين هما الدولتان الوحيدتان في المنطقة اللتين شهدتا العنصرية والإبادة الجماعية على يد المستعمر.

رابعًا، أدَّى تزاوج التجريف السياسي الناتج عن إفناء المعارضة السياسية الحقيقية -إفلاس السياسات الحزبية داخل البلاد- مع قمع واحتواء النقابات، إلى أن يُنظِّم الناس أنفسهم بصورةٍ مختلفة. في السنوات القليلة الماضية، وجد السخط المتفشي لدى الشعب تعبيرًا متزايدًا له في الاحتجاجات القطاعية وظهور الحركات الاحتجاجية الأفقية، وبخاصة في صناعة الغاز والنفط في منطقة الصحراء الجزائرية.

هناك عداءٌ راسخٌ تجاه الأحزاب السياسية. وكما في مصر، اندلعت الحركة بقيادة الشباب، وهي فضفاضة نسبيًا. ما مِن قادةٍ مُحدَّدين أو هياكل مُنظَّمة تدفع هذه الحركة. هذه انتفاضةٌ شعبية تحتشد فيها قوى جماهيرية من الطبقات الوسطى، ومن الطبقات المُهمَّشة في المناطق المدينية والريفية التي وقعت تحت طائل عقودٍ من السياسات النيوليبرالية والاقتصاد الريعي الفاسد في إطار العولمة المُتوحِّشة التي فَرَشَت البساط لنهب موارد البلاد الطبيعية والمالية. يضطلع الطلاب، والعمال (بالأخص في قطاع النفط والغاز)، والنقابات المستقلة، والقضاة، والمحامون، بدورٍ فائق الأهمية في هذه التحرُّكات، إذ يشاركون ويُنظِّمون احتجاجاتهم الخاصة، ويدعون للإضرابات، ويحافظون على الزخمِ قائمًا. وعلى عكس السودان، التي ينهض فيها اتحاد المهنيين بدورٍ قيادي وتنظيمي، يبدو أن الاحتجاجات في الجزائر تُنظَّم بالأساس عن طريق الشبكات الاجتماعية على الإنترنت.

أخيرًا، أنا لست من أولئك الذين إذا لم تعجبهم نتائج الثورة -أو قواها أو مطالبها أو إستراتيجياتها- يهرعون للتقليل من طابعها الثوري أو استنكاره. ومع ذلك، نحن بحاجةٍ لأن نكون أمناءً على المستوى النقدي والفكري، وأن نتعلَّم من أخطاء الثورات السابقة. إن المغالاة في تقدير العفوية والحركات التي “لا قائد لها”، والعداء لأيِّ شكلٍ من أشكال الهيكلة، ليس فريدًا في الحالة الجزائرية، بل لقد رأينا ذلك من قبل في ثورات بلدانٍ أخرى، مثل مصر وتونس.

من شأن الحركات العفوية تمامًا، التي ما مِن قادةٍ لها، أن تُولِّد تحرُّكاتٍ ضخمة عابرة للطبقات تعطي الانطباع بالوحدة رغمًا عن الاختلافات الطبقية والجنسية والأيديولوجية. ومع ذلك، قد يصبح الأمر خطيرًا حين يُستَبعَد من أيِّ نقاش السؤال عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمُهمَّشين. في مثل هذه السيناريوهات، تُفسِح القضايا المشروعة للسيادة الشعبية والعدالة الاجتماعية الطريق أمام المفاهيم الليبرالية عن الديمقراطية والحرية والمساواة، على حساب المطالب الأساسية للسواد الأعظم من الشعب.

يُطلَق على هذا الوضع اسم “ثورة دون ثوَّار” أو “ثورة دون تنظيم”. هذه الحركات الجماهيرية غير المُهيكَلة وغير المُتبلوِرة، والتي تفتقر إلى القيادة، تصبح عُرضةً للخطر بشدة. وهذه السمات قد تكون نقاط ضعف قاتلة، بالأخص حين يبدأ القمع.

هذا هو الواقع على الأرض الآن. لكن من المُذهِل والمُلهِم أن نرى الناس يستعيدون ثقتهم بأنفسهم ويبدأون في الوثوق بلفظة “نحن” الجماعية. شهدتُ كيف لم تبتلع الجماهير الخدع المختلفة التي نسجتها الأقسام المختلفة من النظام. تزداد الحركة قوةً، وتتجذَّر مطالبها يومًا بعد آخر. وما يُوحِّد الناس هو أن كافة رموز النظام القديم لابد أن ترحل، ولابد أن تُحاسَب على النهب وعلى المعاناة التي تسبَّبوا فيها.
**********

تزداد صدارة النساء في الحركة الاحتجاجية الواسعة في السودان، وبشكلٍ أكبر في صورة آلاء صالح الشهيرة. ليس هذا مفاجِئًا بالنسبة لأولئك الذين درسوا التاريخ؛ فلطالما كانت الثورات أعيادًا للمُضطَهَدين. هل يمكنك التحدُّث عن الوضع في الجزائر في ما يتعلَّق بالنساء، وأقلية الأمازيغ، وغيرهما من الفئات المُضطَهَدة؟ ما هي المظالم التي يعيشون تحت وطأتها، وكيف هي مشاركتهم في الاحتجاجات حتى الآن؟

لا يمكن أن تندلع الثورات دون النساء ودون مشاركتهم الحية، والثورة الجزائرية ليست استثناءً من ذلك. منذ بداية التحرُّكات الشعبية، نهضت النساء بدورٍ مهمٍ في ربط مطالبهن ضد السلطة الأبوية بالمطالب الديمقراطية للحركة ككل. رأيت كيف تنامَت حركة النساء أسبوعًا بعد آخر. كانت أعدادهن كبيرةً في الاحتجاجات في الجزائر العاصمة وبجاية وسكيكدة، وقد انخرطن بقوةٍ أيضًا في الحركات النقابية والطلابية.

ومع ذلك، لا يزال أغلب المجتمع الجزائري مُحافِظ ورجعي. أحد المواقف يُوضِّح ذلك بجلاء: تعرَّضَت النسويات للتحرُّش وهوجمن في مسيرةٍ بالجزائر العاصمة، وكان الرجال يحثوهن على عدم رفع مطالب نسوية -لأن ذلك بحسب زعمهم من شأنه أن يُقسِّم الحركة. هناك أيضًا مقطع فيديو يجري تداوله يظهر فيه رجالٌ يُهدِّدون باستخدام الحمض ضد نساءٍ تجرَّأن على رفع مطالب نسوية. ربما تكون هذه واقعةً منفصلة وشديدة التطرُّف، لكنها تُظهِر معارضةً وتحيُّزًا جنسيًا راسخين في مجتمعنا ضد مطالب المرأة. منذ أيامٍ قليلة، ألقت الشرطة القبض على أربع ناشطات نسويات وتعمَّدَت إذلالهن بإجبارهن على خلع كافة ملابسهن.

على الرغم من كلِّ الإنجازات التي حقَّقَتها المرأة في العقود القليلة الماضية في التعليم، والتوظيف، والانخراط في الحياة السياسية، لا يزال هناك طريقٌ طويل أمام النضال ضد الاضطهاد الأبوي من أجل مساواتهن بالرجال (كما في كلِّ أرجاء العالم). إنهن يقاومن رؤيةً رجعية لدورهن في المجتمع.

بالنسبة لأقلية الأمازيغ، أريد أن أُقدِّم تصحيحًا هنا: إنها ليست أقلية. الأغلبية من الجزائريين هم من الناحية العرقية أمازيغ. نحن جميعًا أمازيغ عرب؛ والعربية أيضًا جزءٌ مهم مِمَّا نحن عليه كمجتمعٍ ثقافي وسياسي. خَلَقَت قضايا الهوية هذه الكثير من التوتُّرات خلال العقود القليلة الماضية، لأنه كان هناك تجاهل لتنوُّعنا الثقافي لصالح مفهومٍ أضيق لهويتنا. هُمِّشَ البُعد الأمازيغي لتراثنا الثقافي الجزائري تمامًا واختُزِلَ إلى مجرد فلكلور.

لكن، مع ذلك، حقَّقَ النضال من أجل الاعتراف باللغة الأمازيغية، كعنصرٍ متساوٍ مع اللغة العربية والإسلام في هويتنا الثقافية، الكثير من الإنجازات منذ الربيع الأمازيغي في العام 1980، حين نهضت الحركة الثقافية الأمازيغية في منطقة القبائل شماليّ البلاد. كان الربيع الأمازيغي أول تحدٍ سياسي كبير للنظام منذ مطلع الستينيات، حين صاغت القبائل المظالم التي يعيشون في ظلِّها ضد استبدادية النظام وازدرائه لهويتهم اللغوية والثقافية، وتهميشه إياهم من اقتصاد البلاد. هذه الحركة الجماهيرية الديمقراطية بحق ألهَمَت عقدًا كاملًا من النضالات والتمرُّدات المتواصلة.

في أبريل 2001، اندلع عصيانٌ في منطقة القبائل، واحتلَّت الحركة الشعبية الأمازيغية صدارة الساحة السياسية، وفَرَضَت قضية الديمقراطية مرةً أخرى على الطاولة. نظَّمَت الحركة مسيرةً مُبهِرة للغاية إلى الجزائر العاصمة وألهَمَت الكثير من المواطنين في مناطقهم ضد “الحُجرة” (الإذلال والظلم الاجتماعي). ومع ذلك، تعرَّضَت الحركة للتصفية والسحق.

حين يتحدَّث الناسُ في الغرب عن أقلية الأمازيغ، هم يعنون بالأساس مواطني القبائل. ولأسبابٍ تعود إلى العهد الاستعماري، كانت هذه المنطقة في صدارة جبهة النضال ضد الاضطهاد والاستبداد. لم يختلف الأمر في الأحداث الجارية، إذ ينطبق الأمر نفسه على فئات الشاوية والمزابيين والطوارق. انخرطوا جميعًا كمواطنين جزائرين في مواجهة تكتيكات “فرِّق تَسُد” التي تنتهجها النخب الحاكمة. كانت الشعارات المرفوعة واضحة: “لا تزيد تقسيمًا؛ نحن جميعًا جزائريون”، مُشدِّدين على الاتحاد الشعبي في ما بينهم.
**********

ما هي أبرز التيارات اليسارية في الجزائر، ولأيِّ مدى يضطلع اليسار المُنظَّم بدورٍ في هذه الحركة؟

يتعيَّن على اليسار أن يكون هو القوة التي تُوحِّد بين الحرية والمساواة؛ ليس فقط المساواة السياسية بل أيضًا المساواة الاقتصادية والاجتماعية التي تقضي على التفاوتات في المجتمع. لا يمكن أن تكتمل الديمقراطية في إطار هيمنة رأس المال وديكتاتورية السوق، ولهذا نحتاج ديمقراطية اجتماعية واقتصادية أيضًا. ماذا سيفعل الشاب الجزائري بالحرية إن لم يكن لديه عملٌ أو مسكنٌ لائق؟

للأسف، لأسبابٍ عديدة تتضمَّن أسبابًا عالمية أيضًا، فإن اليسار في الجزائر منقسم وضئيل وضعيف. لكنه في لحظاتٍ ثورية مثل هذه يمكنه إعادة إحياء نفسه والنمو إن أراد أن يضطلع بدوره التاريخي كأداةٍ للجماهير للتعبير عن مطالبهم الأساسية وتحقيقها، حيث الحرية والكرامة والعدالة. ومن أجل ذلك، يحتاج اليسار لرؤيةٍ واضحةٍ للمستقبل المرجو؛ يحتاج استقلالًا فكريًا وتنظيميًا، ولابد من أن يُخلِّص نفسه من الأبوية وأن يبني تنظيماتٍ جماهيرية في خدمة الجماهير.

حزب اليسار الأكبر في الجزائر هو حزب العمال، بقيادة لويزة حنون، وهو حزب يتنبَّى التروتسكية. للأسف الشديد، ولأسبابٍ خارجة عن المنطق، أيَّدَت حنون بوتفليقة لوقتٍ طويل لأنها اعتبرته حائط صد ضد الإمبريالية. رأينا من قبل هذا الموقف “المناهض للإمبريالية” المُضلَّل الذي يؤول في نهاية المطاف إلى تبرير القمع، بالأخص في حالة سوريا في ظلِّ بشَّار الأسد. وما يثير السخرية هو أن عهد بوتفليقة هو الأكثر تطرُّفًا في النيوليبرالية في تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال، بتنازلاتٍ عديدة قدَّمها للشركات متعدِّدة الجنسيات ورؤوس الأموال الغربية. إنه عهد كومبرادورية النخب الحاكمة بإعلاء مصالحهم الخاصة وإخضاع المصالح الوطنية لخدمة رأس المال الدولي. ببساطة؛ تخلَّى بوتفليقة عن الشرعية الشعبية لصالح رؤوس الأموال المحلية والدولية.

هناك غير ذلك من المنظمات والأحزاب السياسية الأصغر، مثل حزب العمال الاشتراكي، والحركة الديمقراطية والاجتماعية، وهؤلاء يحاولون مضاعفة المبادرات مثل الدعوة إلى التنظيم الذاتي للعمال والطلاب والجماهير الشعبية. لابد من تشجيع مثل تلك المبادرات وتعزيزها. نشهد ذلك بالفعل في داخل الحركة الطلابية، وفي محاولات بعض النقابيين القاعديين لاستعادة الاتحاد النقابي الأكبر في البلاد (الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، وطرد قياداته الفاسدة المؤيِّدة للنظام والموالية لرجال الأعمال.
**********

في بلدانٍ مثل مصر، هناك تقليدٌ سياسي قوي بالدفاع عن الجيش بناءً على ماضيه “القومي العربي” المزعوم. هل هناك أوهامٌ مثل تلك في الجزائر بالنظر إلى جذور الحكومة في جبهة التحرير الوطني؟ وإلى أي مدى استوعَبَ الناس دروس الدور الرجعي للجيش في الثورة المصرية؟

يتمتَّع الجيش الوطني الشعبي في الجزائر بتاريخٍ فريد، إذ نشأ من النضال المناهض للاستعمار ضد الفرنسيين، واضطلع بدورٍ مهيمن في الساعة السياسية مذاك الحين. لذا، لا يزال لديه بعض الشرعية الثورية رغم كلِّ التجاوزات منذ الاستقلال عام 1962 -بما في ذلك قتل المئات من الشباب في انتفاضة عام 1988، والانقلاب العسكري في 1992 وفي المجازر التي ارتكبها وحربه ضد المديين خلال العشرية السوداء التي تلت ذلك.

بسبب العسكرة العميقة للمجتمع، هناك خوفٌ مُبرَّر من الجيش ومِمَّا يمكنه أن يفعل. شارَكَت الجنرالات والقيادة العليا للجيش في التراكم الطفيلي والفساد الراسخ في تزاوج الأوليغارشية والجيش الذي حَرَمَ الشعب الجزائري من حق تقرير مصيره.

فقدت جبهة التحرير الوطني مصداقيتها تمامًا كواجهةٍ لحكمٍ عسكري استبدادي وفاسد. وقد أجبر اقتحام الشعب المسرح السياسي بهذا الحسم قيادة الجيش على فصل نفسها عن الرئاسة. لكن الجيش قد تدخَّل لإنهاء حكم بوتفليقة بغرض حماية النظام نفسه. كانت لحظة تنحي بوتفليقة مهمةً للغاية في الحركة الشعبية، إذ أنها تُعَدُّ الانتصار الوحيد الذي أُحرِزَ في النضال الطويل من أجل التغيير الجذري، ذلك التغيير الذي لابد أن يتضمَّن إطاحة كافة رموز النظام، بمن فيهم قائد الجيش قايد صالح، وهو شخصيةٌ رئيسيةٌ مُخلِصةٌ لنظام بوتفليقة، وكان مؤيدًا لعهدته الخامسة قبل أن يتراجع تحت ضغط الحركة الشعبية المتصاعدة.

لا يمكن الوثوق في قيادة الجيش. كان ذلك واضحًا على خلفية تهديدات قايد صالح في بادئ الأمر ضد الحركة قبل أن يتبنَّى لهجةً تصالحية تجاهها. في خطاب العاشر من أبريل الذي ألقاه من مدينة وهران المينائية، شماليّ غرب البلاد، قال الجنرال إن ما مِن حلٍ للأزمة إلا من خلال دستورٍ مُصمَّمٍ في المقام الأول من أجل حماية النخب الحاكمة ومصالحها. يدعم الجنرال بالأساس مرحلةً انتقالية يكون التحكُّم فيها واقعًا من أعلى -انقلاب ضد الانتفاضة الشعبية. صالح والقيادة العامة للجيش ما هم إلا رأس حربة الثورة المضادة التي أظهرت نفسها علانيةً، بما يتضمَّن قمعها العنيف للمتظاهرين السلميين. وحتى أولئك الذين هيمنت على رؤسهم الأوهام حوله -وحول تصريحاته الواحد تلو الآخر بأنه يقف في صفِّ الشعب وتطلُّعاته- صاروا حذرين أكثر فأكثر.

لا يمكن تطبيق شعاراتٌ مثل “الجيش والشعب إخوة” على الجنرالات الفاسدين، الذين انتفعوا من حكم بوتفليقة ولطالما كانوا يُعزِّزونه. ويتعيَّن على الجماهير الشعبية في الجزائر أن تحذر من تدخُّل مثل هذه الأطراف، لتتجنَّب سيناريو مشابه للجنرال السيسي في مصر. هناك أيضًا كان السيسي يدَّعي أنه تدخَّلَ نيابةً عن الشعب حين نظَّمَ انقلابًا ضد محمد مرسي. ونحن ندرك جميعًا ماذا حدث بعد ذلك. قد يكون من التكتيكي الاستفادة من صراع القوى الدائر في أوساط النخب الحاكمة، لكنه سيكون خطأً قاتلًا التصديق بأن قيادة الجيش تقف في صفِّ الشعب أو في صفِّ ثورته. لابد أن يكون الشعب الجزائري يقظًا ومُصمِّمًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى لمنع قوى الثورة المضادة من اختطاف هذه الانتفاضة التاريخية.
**********

ما هي التحديات والمهام الفورية التي تواجه الحركة؟

في هذا الأسبوع التاسع من الاحتجاجات المتواصلة، ورغم كل محاولات التلاعب من خلال دعاية التقسيم وبثِّ الخوف، تظلُّ الحركة الشعبية واثقة الخطى؛ لا تزال تتنامى وتتسع. لم يكن أحدٌ يتوقَّع أن يخرج القضاة لتأييد الحركة الشعبية، وحتى أن يرفضوا مراقبة الانتخابات الرئاسية المُزمَع عقدها في 4 يوليو. لا يزال الطلاب ينظِّمون احتجاجاتٍ ضخمة ومسيراتٍ في كافة أرجاء البلاد لتأييد الحراك الشعبي، وقد دعوا إلى إضرابٍ عام. بعض النقابات المستقلة أيضًا مستمرةٌ في إطلاق الدعوات لتنظيم الإضرابات لتدعيم الحراك الجاري. وخلال الأسبوع الماضي، أعلن حوالي 40 رئيس بلدية رفضهم تنظيم الانتخابات في بلدياتهم. وبعض منظمات المجتمع المدني مُصمِّمةٌ على استعادة المساحات العامة، بتنظيم نقاشاتٍ علنية وأنشطةٍ مفتوحة، في حين لا يُسمَح بتنظيم تلك النقاشات والأنشطة في الجزائر العاصمة، وتنتهي عادةً بالقمع والاعتقالات.

شهدنا أيضًا كيف كانت العديد من الزيارات الوزارية تُقطَع أو تُلغَى، إذ أخذ الناس يلاحقون الوزراء في ولايات مثل تبسة وبِشار وتيبازة. من الواضح أن الناس يرفضون خطة النظام الانتقالية، ونحن نعيش اليوم في ظلِّ حالةٍ ثورية قد تتصاعد وتتجذَّر، وفقًا لردة فعل الطبقة الحاكمة ومستوى الوعي السياسي والتنظيم داخل الحركة الجماهيرية. إذ أن “أعضاء العصابة”، كما يُطلِق عليهم الناس، لديهم مصالح هائلة وراسخة في الحفاظ على الوضع القائم. سيفعل هؤلاء كلَّ ما يتطلَّبه الأمر للحفاظ على هذه المصالح -بما في ذلك تقديم أكباش فداء لكسب الوقت ولحماية النظام.

لا يمكن أن تعمينا أيُّ سذاجةٍ من أيِّ نوع؛ الثورات تأتي بثمنٍ وقمعٍ في خضم هذه العملية. والطابع السلمي أو العنيف للثورة يتحدَّد دائمًا من خلال الأجهزة التي تمارس القمع وأساليبها في ذلك. لابد أن يتحوَّل ميزان القوى بشكلٍ كبير تجاه الجماهير من خلال الإبقاء على المقاومة (المسيرات والاحتجاجات والاعتصامات في الساحات العامة والإضرابات العامة، إلخ)، من أجل إجبار قيادة الجيش على الخضوع لمطالب الشعب بتغيير النظام وإطاحة الحرس السياسي القديم برمته.

يمكن تلخيص بعض التحديات التي تواجه الحركة كما يلي:

– لابد أن تعمل الحركة على هيكلة نفسها من خلال تشجيع التنظيمات المحلية الذاتية عبر لجان الأحياء، وروابط الطلاب، والتمثيل المحلي المستقل، وفتح المساحات للنقاش والتفكير لخلق منصة صلبة أو برنامج متماسك.

– لابد من تزويد الحركة بهياكل وآليات شعيبة ديمقراطية تسمح لنا بوضع إستراتيجيات حول: كيفية صياغة مطالب واضحة، ونوع التكتيكات التي نتبنَّاها، وتوقيت تصعيد المقاومة أو التفاوض. لا يمكن أن نهرع هكذا إلى الانتخابات، إذ ستكون دومًا هناك القوى المُنظَّمة التي ستسيطر على زمام الأمور (بما يشمل النظام القديم نفسه).

– في هذا المُنعَطَف المصيري، من المهم للغاية الإصرار على الحريات الشخصية والعامة في التعبير والتنظيم طوال الوقت، وليس فقط في أيام الجمعة.

– ينبغي أن نعارض بكل حسم أي انتقالٍ تنظِّمه الأوليغارشية الكومبرادورية والجيش، وأن ندعو إلى جمعية تأسيسية شعبية ذات سيادة لأجل أن تخرج بدستورٍ ديمقراطي وشعبي يُكرِّس للعدالة والسيادة الشعبية على الموارد الطبيعية. لابد أن يكون الانتقال الديمقراطي في يدِ الشعب وأن تكون قوى الشعب هي من تنظِّمه لصالحه.

– ويجب أن نواصل رفضنا لأيِّ تدخُّلٍ أجنبي في الأحداث الجارية.

– أخيرًا، لابد أن نزاوج بين العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جانب، والديمقراطية من جانبٍ آخر، لأن هذه الثورة تُعبِّر عن إرادةٍ عامة للُمضطَهَدين للدفاع عن مصالحهم المشتركة.

التغيير الجذري ليس إجراءً يمكن إتمامه بضغطة زر، بل عمليةً سياسيةً مُطوَّلة تتطلَّب مواجهاتٍ وتضحيات، وفي أوقاتٍ معينة تقود إلى مسارٍ يُعَدُّ له بنضالاتٍ طويلة وخبراتٍ متراكمة. وبإعادة صياغة عبارة إسلامية شهيرة، فـ”لنعمل للتغيير الجذري كأننا نعيش أبدًا، ولنُمهِّد الأرض لذلك كأننا نموت غدًا”.

– هذا الحوار مترجم عن موقع “الراية الحمراء” الأسترالي.

ماخذ:

حوار مع مناضل جزائري: تحديات وفرص الثورة بعد بوتفليقة