رسالة الأسيرة خالدة جرار
إلى
مهرجان "فلسطين تكتب" للأدب
من سجن الدامون على قمة جبل الكرمل في مدينة حيفا، أرسل لمؤتمركم ولكافة المشاركات والمشاركين تحياتي وتحيات أسيراتنا الفلسطينيات البالغ عددهن 40 أسيرة.
لكل الكُتاب والأدباء والمثقفون والفنانون، لكل الأقلام الحّرة التي تنشد العدل والحرية وتدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وتناهض الهيمنة الاستعمارية الكولنيالية والعنصرية، لهؤلاء الأحرار لهم منا كل التحية.
واسمحوا لنا أن نرسل تحياتنا ودعمنا لكل الكُتاب والأدباء والمثقفون والفنانون العرب الذين يرفضون التطبيع مع المنظومة الاستعمارية، والذين رفضوا اتفاقيات التطبيع الإماراتية والبحرينية والسودانية، فمواقفكم الحرة هي المواقف الحقيقية والمبدأية فكل التحية لكم جميعاً.
رغم احتجاز اجسادنا خلف الأسوار والقضبان إلا أن روحنا حرّة تحلق في سماء فلسطين والعالم، توصل صوتها وصوت شعبها لكل الأحرار. ومهما حاول الاحتلال إحكام قبضته الاستعمارية وآليات الرقابة والعقاب، إلا أن الصوت الحر الذي يحمل آلام شعب عانى من النكبة والتهجير والاحتلال والاعتقال يصلكم حاملاً معه الإرادة والرفض والتحدي لكل ما يفرض علينا استعمارياً من جهة، ويناضل لتثبيت وترسيخ القيم الإنسانية وقيم التضامن الإنساني العالمي والتوق للتحرر الوطني والاجتماعي والاقتصادي التي تربط أحرار العالم من جهة أخرى.
تحية للمشاركين في هذه الجلسة الختامية: الرفيقة أنجيلا ديفيس، الزميلة والصديقة حنان عشراوي ، ريتشارد فالك ، المحبوبة سوزان أبو الهوى ، وبيل ف. مولين.
ومساهمةً منا في أعمال هذا المؤتمر، سننقل لكم تجربتنا الملموسة مع الأدب والثقافة داخل سجون الاحتلال. فالكتاب داخل الأسر أحد أهم المقومات الأساسية للحياة الاعتقالية، وهو ما يبقي حالة التوازن النفسي والمعنوي لمناضلات ومناضلين يرون في وجودهم داخل الأسر جزء من استمرار مقاومتهم ضد الاستعمار والاحتلال الذي يسعى لتجريدهم من إنسانيتهم وإبقائهم في حالة من العزلة عن العالم الخارجي، والتحدي يكون في تحويل الاعتقال إلى حالة من " الثورة الثقافية" من خلال القراءة والتعليم والنقاشات.
الكتاب داخل السجن يتعرض للملاحقة والمصادرة وآليات رقابة مشددة على إدخاله من قبل الأهل. فنظرياً، يسمح لكل أسيرة بأن تدخل كتابَين في الشهر الواحد، وبالطبع تخضع الكتب "للفحص الأمني" وغالباً ما يتم رفض إدخال الكثير منها بحجة أنها كتب تحريضية، وفي أحيان كثيرة تفرض عقوبات على الأسرى والأسيرات بحرمانهم من إدخال الكتب لشهرين أو ثلالثة كما حصل معي عام 2017. كما تخضع المكتبة المتواضعة للرقابة والتفتيش الدائم لإلقاء القبض على كتاب يكون قد نجح بالتسلل للأسر، مما يستدعي الحفاظ على الكتب المعرّضة للاعتقال بوسائل يبتدعها الأسرى. فمنع اعتقال كتاب أحد أهم المهمات الأساسية للأسيرات والأسرى داخل السجون. ورغم القيود المشددة تمكنت مجموعة من الكتب الجميلة أن تتسلل إلى الأسر لتنعش الأسيرات. فبالإضافة إلى بعض كتب الفلسفة والتاريخ، نجحت الآثار الكاملة لغسان كنفاني من زيارة الأسيرات، كما غالبية روايات ابراهيم نصر الله، وسوزان أبو الهوى، وعوضت "الأم" لمكسيم جوركي، الأسيرات والأسرى عن أمهاتهم المحرومين من احتضانهم, "ودعوني أتكلم" لدوميتيلا دشونغارا، وكذلك أعمال عبد الرحمن منيف، والطاهر وطّار، وأحلام مستغانمي، ومحمود درويش، وقواعد العشق الأربعون " إليف شافاق"، والبؤساء لفيكتور هوجو، وكتب نوال السعداوي، وسحر خليفة، وإدوارد سعيد، وانجيلا ديفيس، وألبير كامو.
كل هؤلاء الكتب نجحوا في التسلل لأيدينا داخل السجن، بينما تم اعتقال كتب يوليوس فوتشيك "تحت أعواد المشنقة" وأوراق السجن لغرامشي وتم اعتقال كل كتب غرامشي، ويبدو أن للاحتلال موقف عدائي شديد من "غرامشي، وتسللت لنا بعض من الروايات التي كتبها أسرى داخل السجون، منها كتاب " لست وحدك" الذي يتحدث عن تجربة الأسر والتحقيق في السجون الإسرائيلية. رغبت أن تعرفوا أيها الأصدقاء والصديقات الأدباء والكُتاب أن كتبكم ورواياتكم المعروضة في المكتبات في كل أنحاء العالم تتعرض عندنا للملاحقة والمطاردة من قبل سجاني الاحتلال وتعتقل هي أيضا حتى داخل السجون.
إن صراع الإرادات داخل الأسر لها تجليات متعددة، فمن جهة تقرض إدارات مصلحة السجون إجراءات تعسفية متمثلة في سياسة العزل ومنع زيارات الأهالي أو الحرمان من إدخال الكتب الثقافية، ومنع نهائي لإدخال الكتب التعليمية، ومنع الغناء والأناشيد الثورية والعادية، ومنع التجمعات، وتقليصات الاحتياجات الأساسية من "الكانتين" ومنها منع شراء الراديو الذي يشكل أحد الأدوات لمتابعة ما يجري في العالم من أحداث، أو يسمعنا أصوات عائلاتنا عبر البرامج المخصصة للأسيرات والأسرى في الإذاعات الفلسطينية، وكاميرات المراقبة المحيطة بالسجن وفي "ساحة الفورة" وفي المكان الذي يسمح للأسيرات بالتواجد به لمدة خمسة ساعات متقطعة يومياً خارج الغرف الموصدة الأبواب والنوافذ الحديدية، والتفتيشات الاستفزازية لغرف الأسيرات أحياناً في ساعات متأخرة من الليل بحثاً عن أية خاطرة أو ورقة تخطها الأسيرة لتعتبر مهمة إخفاء الخاطرة أو الكتابة ومنع مصادرتها جزء من المعركة النضالية داخل الأسر.
إن تفاصيل الحياة الاعتقالية وصراع الإرادات تدفعنا لابتداع أساليب متنوعة لإفشال هذه السياسات، وما يمكن أن يعتبر تفصيلياً تافهاً في الحياة خارج الأسر، يكون شديد الأهمية داخل الأسر. فالقلم مهم والورقة مهمة والكتاب كنز ثمين يستدعي الحفاظ عليهم كأدوات أساسية تعزز من قناعتنا بأهمية النّضال ضد كل أشكال الهيمنة الاستعمارية بكل تجلياتها، ومنها الهيمنة الثقافية التي يحاول الاحتلال فرضها علينا، لذا نجد الكثير من الأسرى وخاصة ذوي الأحكام العالية قد ساهموا في إغناء الأدب من خلال إصداراتهم لعدد من الكتب الروائية والتي آمل أن تحظى باهتمام الكتاب والأدباء العرب والعالميين. كما صدّرت الحركة الأسيرة عدد من الدراسات والأبحاث التي تسلط الضوء على واقع الأسر داخل سجون الاحتلال، وكنت قد أعددت دراسة في عام 2016 "أثناء وجودي في الأسر" حول واقع الأسيرات الفلسطينيات داخل السجون الاسرائيلية، وتناولت فيها التأثيرات والانتهاكات الجذرية بحق أسيراتنا ومنهم الأسيرات الأطفال.
في العام 2019 أعددت في الأسر أوراق أخرى حول "التعليم داخل السجون" تم نشرها في كتاب للأستاذ رمزي بارود، ولم يتسنى لي رؤية الكتاب بعد نشره بسبب إعادة اعتقالي الحالي، استعرضت فيها التحديات التي يواجهها التعليم وملاحقة إدارة مصلحة السجون لأي عملية تعليمية داخل الأسر بهدف عزل الأسيرات والأسرى وتحويلهم إلى فاقدين للأمل والمستقبل، ويأتي التحدي من قبل الأسيرات والأسرى في إفشال محاولات مصلحة السجون، عبر ابتداع طرقٍ متعددة لانتزاع الحق بالتعليم. وفي هذا المجال نسعى الآن إلى البدء بالتعليم الجامعي للقب الأول للأسيرات كمرحلة ثانية من النضال من أجل الحق في التعليم. وستكون هذه المرة الأولى في تاريخ النساء الفلسطينيات في الأسر التي ستتمكن فيها الأسيرات وخاصة "ذوات الأحكام العالية" من التعليم الجامعي داخل الأسر، وسوف نكتب قريباً عن هذا الموضوع والتحديات التي تواجهه. يرتكز جزء من التعليم الجامعي على إدماج التجارب الفلسطينية والعربية والعالمية من خلال الأدب المقاوم، والكتابات البحثية والعلمية المتوفرة بصعوبة داخل الأسر وتطوير القدرة التحليلية للأسيرات، وبعث الأمل والثقة بالنفس واعتبار السجن مكاناً للتطوير الثقافي والإبداعي والإنساني، وتعزيز القناعة بقدرة النساء على إحداث التغيير في المجتمع بعد التحرر من الأسر، وتمكن الأسيرة من استكمال تعليمها الجامعي للقب الثاني أو الانخراط في الحياة العملية بعد تحررها من الأسر، كجزء من النضال ضد الاستعمار والتمييز الواقع على النساء من خلال مفهوم شامل للتحرر.
أثناء اعدادي لهذه الكلمة كان لدينا حلقتين لتعليم للأسيرات اللواتي التحقن بالتعليم الجامعي، الحلقة الأولى كانت حلقة دراسية للغة الإنجليزية والأخرى كانت للغة العربية.
وقد لفت نظري ما يلي: في الحلقة الأولى للغة الإنجليزية كان مطلوب أن تعد كل أسيرة نموذجاً للالتحاق بإحدى الجامعات وتحديد طبيعة التخصص الذي ترغب الأسيرة الالتحاق به في الجامعة فكانت بعض خياراتهن كالآتي:
شروق: أسيرة من القدس محكوماً 16 عاماً أمضت 6 سنوات اعتقلت وهي على مقاعد دراستها الجامعية في جامعة بيت لحم، حلمها وطموحها أن تدرس "مرشدة سياحية" والسبب لاختيارها هذا التخصص هو تعريف العالم بالأماكن التاريخية في فلسطين. وبشكلٍ خاص مدينة القدس لما تتعرض له هذه الأماكن من انتهاكات وتهديد وتشويه من قبل الاحتلال الذي يسعى لسرقة حتى تاريخنا.
ميسون: أسيرة من بيت لحم محكومة 15 عاماً أمضت منها 6 سنوات، اعتقلت وهي على مقاعد دراستها الجامعية في سنتها الأولى وترغب في دراسة الأدب، وهي قارئة نهمة للأدب داخل الأسر. والسبب في ذلك يعود لمحبتها للأدب بشكل عام لأن الأدب في رأيها يعطي رؤية للمستقبل وتطرح عدة تساؤلات لدى القارئ حول قضية طرحها الموضوع الأدبي إضافة إلى تنمية الفكر وتطوير الثقافة العامة.
ربي: طالبة جامعية في سنتها الثالثة في بيرزيت، اعتقلت قبل 3 شهور ولا زالت موقوفة. طموحها الذي بدأته قبل الاعتقال هو دراسة علم الاجتماع ومستعدة لاستكماله بعد تحررها وسبب اختيارها لهذه الدراسة هو تطوير المعرفة الأكاديمية في تحليل البنى الاجتماعية والطبقية للمجتمع وتأثيرها على الواقع ومنها الواقع النسوي.
في محاولة مني لتحليل الدوافع لهذه الطموحات والأحلام تفحصت ذلك مع الأسيرات، ووجدت أن العامل المشترك لهن التمرد على القيود المفروضة على الأسيرات والرفض لسياسة الاحتلال في منع التعليم وتحدي آليات الرقابة التي تسعى لتحويل الأسيرات إلى كائنات معزولة ومحرومة من رسم مستقبلها وتحقيق أحلامها.
أما الأسباب الأخرى التي ساقتها كل أسيرة على حدى فكانت مقاومة أهداف الاحتلال الرامية لطمس الهوية والتاريخ الفلسطيني. كما الخروج عن الصورة الاجتماعية النمطية للوظائف الخاصة بالنساء من خلال اختيار تخصصات جديدة كالإرشاد السياحي والأدب وعلم الاجتماع وتطوير الحس النقدي.
أما الحلقة الدراسية الثانية فكانت للغة العربية وركزت هذه الحلقة على تعريف السيرة الذاتية والتعرف على نماذج مختلفة لصياغة هذه السيرة وقد تم تقسيم الأسيرات إلى مجموعات ناقشت سير ذاتية مختلفة منها سيرة المناضلة دوميتيلا دشونغارا في كتابها "دعوني أتكلم" والتعرف من خلالها على تجربة عمال المناجم في بوليفيا، وسيرة الكاتب العربي طه حسين في كتاب "الأيام"، وكتاب "ولدت هناك ولدت هنا" للكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي كما تحليل النصوص الأدبية وكان منها كلمة أدبية للشاعر محمود درويش "حيرة العائد" في تحرير الجنوب وهي كلمة ألقاها درويش بمناسبة تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 في جامعة بيرزيت.
لقد كان العرض شيقاً والنقاش بين المجموعات جميعاً أثرى معلومات الأسيرات من جانب وتشجيعهن على الاستمرار في قراءة الكتب والروايات ليتحول السجن إلى مدرسة ثقافية للاطلاع على تجارب مختلفة ولكسر كل محاولات الاحتلال اشعار الأسيرات والأسرى أنهم معزولين ولوحدهم.
إن نضالنا من أجل الانتصار في معركة الإرادة داخل الأسر من خلال حماية الأدب المقاوم والثقافة الحرة من أجل إيصال صوتنا وما نكتبه من خواطر ومخاطبات ورسائل بطرقٍ ووسائل صعبة وصعبة جداً قد ندفع ثمنها عزل ومنع زيارات كما حصل مع الأسير وليد دقة الذي جرى عزله في زنازين الاحتلال حينما نجح في تهريب رواية كتبها داخل الأسر لنشرها في الخارج.
هذا يعتبر تحدي آخر نواجهه في إطار الإرادتين، إرادة المناضلين وإرادة المستعمرين، وكما قالت المناضلة دوميتيلا "دعوني أتكلم"، نقول نحن الأسيرات الفلسطينيات " دعونا نتكلم.. دعونا نحلم...دعونا نتحرر"
شكراً لكم..
الأسيرة خالدة جرار
سجن الدامون
17-10-2020
ماخد
https://www.palestinewrites.org/news1/khalid-jarrar-smuggles-a-letter-for-palestine-writes?fbclid=IwAR368PrRip_H4S1SIDu_RFpEfenu6RAjzKj3bR_JUYrO2fZM56BCEqOeJkc
https://www.palestinewrites.org/organizers