الكاتب/ة: بدور حسن.
May 19, 2016
ترجمه/ته الى العربية: ريان شبقلو
http://al-manshour.org/node/6969
المصدر:
https://budourhassan.wordpress.com/2016/05/19/how-the-syrian-revolution-has-transformed-me
يتمحور العالم حول فلسطين، هكذا كنت أعتقد حتى 2011.
كانت القضية الفلسطينية في رأيي امتحاناً يكشف مدى تمسّك الشخص بالحرية والعدالة. فلسطين البوصلة الوحيدة التي ستوجّه وترشد أية ثورة عربية. موقف الأنظمة من القضية الفلسطينية هو أوّل وأهم ما يحدد إذا ما كانت أنظمة سيئة أم لا. يجب أخذ كل حدثٍ من وجهة نظرٍ فلسطينية. فقد خذلنا العرب، ونحن من ألهم العالم بمقاومتنا.
نعم، كنت أسمي نفسي بالأممية وأدّعي مناصرة المُثل العالمية والإنسانية ولم أتوقف عن الكلام حول كسر الحدود والسعي إلى ثورة اشتراكية.
ثم جاءت الثورة في سوريا، فبان لي نفاقي وضعف مُثُلي.
لمّا علمتُ أن السوريين في درعا كانوا يطالبون باصلاح النظام في 18 آذار/مارس 2011، رحتُ أفكّر لاشعورياً أنّ كارثةً ستحل في فلسطين إذا تكرّر السيناريو المصري في سوريا. لم أفكّر بالذين قتلهم النظام يومها. لم أفكّر بالذين اعتقلوا أو عذبوا، ولا بالقمع الذي لا مفر منه. لم أرحّب بالمظاهرات الشجاعة والباسلة في درعا بالحماسة والابتهاج نفسهما الذين شعرت بهما خلال انتفاضات تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا.
تنفّستُ الصعداء مُشكّكةً، خائفةً وقلت في نفسي أن الأسد طاغية ونظامه فاسدٌ، لكن هذا الأخير، إذا سقط، ستكون نتائجه كارثية لفلسطين والمقاومة. كان في نظري محور المقاومة المقدس أهمّ من بقاء السوريين الذين يقضي عليهم المدافعين عنها. فقد كنت من أولئك الذين يتحمّسون لدى رؤية حسن نصرالله على شاشة التلفاز، أحفظ العديد من فيديوهات خطاباته على موقع يوتوب وتدمع عيناي عندما أسمع أغانٍ تمجّد المقاومة وانتصاراتها.
ومع أنني كنت أؤيد مطالب المتظاهرين السوريين في المبدأ، إلا أن تأييدي لهم كان متردداً ومشروطاً. هذا ليس تضامناً لأنه كان نابعا من الأنانية ومتمحوراً حول فلسطين.
شاركتُ تغريدة لمقالٍ من مدونة ناشطٍ مصري ينادي فيه السوريين لحمل الأعلام الفلسطينية من أجل “فضح” دعاية النظام. نزل الشعب السوري الى الشارع يدافع عن المُثُل العالمية نفسها التي زعمتُ أنني أؤيدها، لكني لم استطع رؤية صراعه خارج وجهة نظري الفلسطينية الضيقة. زعمتُ أنني مؤمنة بالأممية فيما كنت أعطي الأولوية لشؤون الفلسطينيين على شؤون الضحايا السوريين. لم أنفكّ أقارن بين عذابات الشعبين وأزعجني أن آلام السوريين باتت تشغل صفحات جرائد أكثر من آلام الفلسطينيين. لم ألاحظ، بسبب سذاجتي، أن معاناة السوريين والفلسطينيين ما هي إلا تفاصيل هامشية، وأن الأخبار العاجلة ستصبح روتيناً مضجراً لا يهتم له أحد خلال أشهرٍ قليلة.
زعمت أنني أرفض كلّ أشكال القمع فيما كنت أنتظر أن يقول زعيم ميليشيا طائفية شيئاً ما عن موضوع سوريا وأن يتكلم بشغف عن فلسطين. كانت الثورة السورية بمثابة المثول أمام محكمة لخيانتي مبادئي، لكنها بدلاً من أن تحكم عليّ علّمتني أهم درسٍ في حياتي، وقد علّمتني إياه بكرامة وفضيلة.
علّمتني إياه النساء والرجال بمحبة، عبر الرقص والغناء في الشوارع وتحدّي القبضة الحديدية بطرق خلّاقة ورفض الاستسلام بالرغم من ملاحقة قوى الأمن لهم/ن وتحويل المواكب الجنائزية الى تظاهرات من أجل الحرية والتفكير بطرق لإطاحة رقابة النظام ونشر السياسة بين الجماهير بالرغم من الرعب الشديد والهتاف للوحدة بالرغم من كل التحريض الطائفي، ولاسم فلسطين وحمل علمها، من دون أن يطلب منهم/ن ذلك المدون المصري الشهير.
تعلّمتُ ذلك تدريجياً، وتوجّب عليّ الصراع مع أحكامي المسبقة التي تملي كيف يجب أن “تبدو” الثورة، وكيف علينا التفاعل مع حركة تعارض نظاماً يفترض أنه يساند القضية الفلسطينية. حاولت بشكل يائس أن أصرف النظر عن الوجه القبيح الذي يخبئه حزب لله تحت قناع المقاومة، لكن الثورة مزّقته. ولم تمزّق هذا القناع فحسب، بل فعلت كذلك بالعديد من بعده. عندها انكشفت الأوجه الحقيقية للذين يسمّون أنفسهم مناضلين للحرية وليساريّي الصالونات، وانتشرت أصوات السوريين المقموعة طويلاً.
كيف للمرء ألّا يلهمه شعب يكتشف صوته ويحوّل أغانيه التراثية وأناشيد كرة القدم الى أناشيد ثورية؟ كيف للمرء ألّا تذهله المظاهرات التي تحصل مباشرة أمام الدبابات؟
إن الجغرافيا السورية أكثر غنىً وتنوعاً ممّا روّج له النظام. انهارت رواياته الرسمية عندما بدأ السوريون المهمّشون يبنون رؤيتهم الخاصة للأمور. القوس القزح السوري يحتوي على ألوان عددها يفوق ذلك الذي يسمح به النظام. أصبح السوريون يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم في أماكن غير ملاعب كرة القدم وأن يغنّوا نشيد النصر الشهير في الساحات العامة والشوارع ليلعنوا “القائد الخالد” حافظ الأسد.
قبل عام 2011 كان اسم حافظ الأسد يُهمس بخوف، أمّا الآن فيستطيع الناس أن يلعنوه وابنه بصوتٍ مرتفع، ويخضّون بذلك سيطرة هذه السلالة الحاكمة الفعلية والرمزية حتّى أُسسها.
لم أقدر أن أبقى محايدةً والسوريون يعيدون تحديد ما هو ممكنٌ ويوسّعون سلطة الشعب، وإن لفترة قصيرة، خلال أشهر الأمل المصيرية الأولى. أليس الحياد خيانةً للمبادئ التي زعمتُ أنّني أؤمن بها؟ كيف لي أن أكرّر “لا يمكنكم الحياد وأنتم على متن قطار متحرك”، وهو ما قاله هاورد زين، لأشخاص محايدين بخصوص القضية الفلسطينية، لأقف بعدها محايدةً أمام أحداث سوريا؟ حالت الثورة السورية دون ذلك وأعدتُ اكتشاف صوتي بسبب تحركاتها الشعبية. صرتُ أستمع الى تسجيلاتٍ للمظاهرات في سوريا وأحفظ الأناشيد وأكرّرها في الاحتجاجات الفلسطينية. يرتفع صوتي بسرعة عندما أفكّر بشجاعة السوريين فأتخطّى جميع مخاوفي.
لا نختار جنسيتنا عند ولادتنا، لكننا غير مرغمين بالحدود التي تفرضها. لم يفرض أحدٌ هويتي السورية عليّ أو حسّ الانتماء الى الثورة السورية، بل تبنّيتها بنفسي. لم أدُس قط أرض سوريا، ولم أتعرّف إلى سوريٍّ من منطقة غير هضبة الجولان المحتلة حتّى 2013. لا أزال أتواصل مع السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والسكايب بشكل أساسي، لكنني لم أستطع إلا أن أشعر أنني جزءٌ من سوريا ومن صراعها.
لم يكن حديثي عن كسر الحدود والتضامن الأممي سوى خطاباً لا أكثر. لكني فهمتُ، بعد 2011، ماهية التضامن، وهذا بفضل الثورة السورية.
لطالما توقّعت أن يساند الناس القضية الفلسطينية من دون شروط أو عظات أو إملاء أوامر. عندما اندلعت الثورة السورية، تصرّفت تماماً مثل أولئك الذين يعظون وهم يجلسون على مقاعدهم، يطالبون الفلسطينيين بثورة الياسمين ويتساءلون أين هما غاندي ومارتن لوثر كينغ الجديدين. لكنني مع استمرار الثورة فهمت معنى التضامن من الأسفل الحقيقي، وهو تضامنٌ من دون شروط، لكنّه نقديٌّ. رأيتُ كيف طبّق البعض، منهم الشهيد عمر عزيز، الحكم الذاتي الأفقي في أحياءٍ محافظة وتقليدية، فتعلّمت من نموذجه.
تعلّمت معنى التضامن داخل المجتمع والوحدة الفلسطينية السورية من الفلسطينيين في مخيم درعا للاجئين، فقد خاطروا بحياتهم ليهرّبوا الخبز والدواء وليكسروا الحصار على درعا. وليس ذلك مجرد عملٍ إنساني، بل هو تعبيرٌ عن موقف سياسي وبداية تشكيل هوية ثورية فلسطينية سورية.
أصابت قوات الاحتلال الاسرائيلية خالد بكراوي، لاجئ فلسطيني من مخيم اليرموك، وزردشت وانلي، شاب سوري من دمشق، فيما كانا يشاركان في مسيرات العودة الى هضبة الجولان عام 2011. أما النظام السوري، فقد قتل الاثنين، الأول عن طريق التعذيب، والثاني بالرصاص خلال تظاهرة سلمية.
قام السوريون بمسيرة تضامن مع غزة وسط ركام منازلهم التي دمرتها غارات النظام الجوية. علّق شبيبة الثورة السوريين ملصقات ضدّ التطهير العرقي للفلسطينيين في مدينة النقب فيما كان معظم أفراد الشبيبة في السجون أو النفي أو القبور.
لقد حوّل السوريون تضامن المقموعين من خطابٍ إلى ممارسة. كيف لك ألا تُعجب بذلك؟
إن كانت الانتفاضة الثانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 قد شكّلت الوعي السياسي والهوية الوطنية لفتاة في 11 من عمرها، قد غادرت قريتها الصغيرة وانتقلت الى المدينة، فالموجة الأولى من الثورة السورية في آذار/ مارس قد ولّدت امرأةً جديدةً تخطو خطوات واثقة في القدس.
القدس، مدينتي التي أسميها داري بملء إرادتي، لا مجال أن يحرّرها أولئك الذين يقمعون شعبي السوري، أولئك الذين قصفوا مستشفى يحمل اسمها.
بعيداً عن محاولة المواءمة بين هويتيَّ الفلسطينية والسورية، زادت الثورة السورية من التزامي بالنضال من أجل تحرير فلسطين من الاحتلال وأيضاً من الطغاة والمتحمسين للقضية لأنها “رائجة” ليس إلا.
افترقت عن ناسٍ اعتبرتهم رفاقي لأنهم يؤيدون النظام السوري، وكسبت رفاقاً جدد ملأوا حياتي بالدفء والقوة.
أدين بالكثير للثورة السورية التي أعادت خلقي من جديد. لا مقام لي ولا أهمية ولا استعداد يسمح لي بالكلام نيابةً عن أي شخص أو عن الفلسطينيين، لكنه يتوجب عليّ الاعتذار من الشعب السوري لأنني ترددت قبل تأييد قضيته وأعطيت الأولوية لمسائل جيوسياسية بدلاً من حياته، ولأنني صدّقت دعاية محور المقاومة بسذاجة.
أعتذر من شعبٍ أُسكت وأُذلّ باسم قضيّتي ولم يجتمع بـ”فلسطين” إلا في زنزانة تحمل هذا الاسم، هو شعبٌ تلقى اللوم والهزء لأنه مطيع، لكنه نُبذ عندما ثار. أعتذر منه لأنه تلقّى اللوم لمذبحة ارتكبت بحقّه ثم خانته معارضةٌ تدّعي أنها تمثله، مثلنا تماماً، ولأن غيره يدعوه لايجاد بديل لنظام الأسد والاسلاميين في الوقت الذي تنهمر القذائف والصواريخ عليه. إن المتسائلين حول موضوع البديل المناسب يجهلون أن السوريين الذين استعدوا لتقديمه اضحوا مسجونين أو موتى أو مشرّدين.
قد تعتقد أن الفلسطينيين لن يسألوا شعباً آخراً يناضل لبناء كل شيء من الصفر عن البدائل لأنهم يرون تشاؤماً في هذا السؤال. لكنّ الشعبين يتوقان الى العيش بكرامة والسير في شوارع دمشق والقدس القديمة. لن نعبر الطريق التي عبّدها النظام السوري وحزب الله بجثث السوريين لنبلغ هذه المدن. سنسلك الطريق التي شقها المناضلون الفلسطينيون والسوريون بأيديهم، شعوب تدرك أنّ حريتها تكمن في حرية أشقائها وشقيقاتها.